فصل: ولاية الأشتر النخعي على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 ولاية الأشتر النخعي على مصر

وفي ولاية الأشتر هذا على مصر قبل محمد بن أبي بكر الصديق اختلاف كثير حكى جماعة كثيرة من المؤرخين وذكروا ما يدل على أن ولاية محمد ابن أبي بكر كانت هي السابقة بعد عزل قيس بن سعد بن عبادة وجماعة قدموا ولاية الأشتر هذا ولكل منهما استدلال قوي والذين قدموا الأشتر هم الأكثر‏.‏

وقد رأيت في عدة كتب ولاية الأشتر هي المقدمة فقدمته لذلك‏.‏

والأشتر اسمه مالك بن الحارث قال أبو المظفر في مرآة الزمان‏:‏ قال علماء السيرة كابن إسحاق وهشام والواقدي قالوا‏:‏ لما اختل أمر مصر على محمد ابن أبي بكر الصديق وبلغ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال‏:‏ ما لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلناه عنها - يعني قيس بن سعد بن عبادة - أو مالك بن الحارث - يعني الأشتر هذا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مما يدل على أن ولاية محمد بن أبي بكر الصديق كانت هي السابقة اللهم إلا إن كان لما اختل أمر مصر على محمد عزله علي - رضي الله عنه - بالأشتر ثم استمر محمد ثانيًا بعد موت الأشتر على عمله حتى وقع من أمره ما سنذكره وهذا هو أقرب للجمع بين الأقوال لأن الأشتر توفي قبل دخوله إلى مصر والله أعلم وكان علي - رضى اله عنه - حين انصرف من صفين رد الأشتر إلى عمله على الجزيرة وكان عاملا عليها فكتب إليه وهو يومئذ بنصيبين‏:‏ سلام عليك يا مالك فإنك ممن استظهرتك على إقامة الدين أو قمع به نخوة الأثيم وأسد به الثغر المخوف وكنت قد وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه بها خوارج وهو غلام حدث السن غر ليس بذي تجربة للحرب ولا مجرب للأشياء‏.‏

فاقدم علي لننظر في ذلك كما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصفة من أصحابك والسلام لا‏.‏

فأقبل مالك - أعني الأشتر - على علي - رضي الله عنه - فأخبره بحديث محمد وما جرى عليه وقال‏:‏ ليس لها غيرك فاخرج رحمك الله فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك فاستعن بالله على ما أهمك واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة‏.‏

فخرج الأشتر من عند علي وأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر‏.‏

وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصر فشق عليه وعظم ذلك لديه وكان قد طمع في مصر وعلم أن الأشتر متى قدمها كان أشد عليه فكتب معاوية إلى الخانسيار رجل من أهل الخراج وقيل كان دهقان القلزم يقول‏:‏ إن الأشتر واصل إلى مصر قد وليها فإن أنت كفيتني إياه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت فأقبل لهلاكه بكل ما تقدر عليه فخرج الخانسيار حتى قدم القلزم فأقام به‏.‏

وخرج الأشتر من العراق يريد مصر حتى قدم إلى القلزم فاستقبله الخانسيار فقال له‏:‏ انزل فإني رجل من أهل الخراج وقد أحضرت ما عندي‏.‏

فنزل الأشتر فأتاه بطعام وعلف وسقاه شربة من عسل جعل فيها سمًا فلما شربه مات وبعث الخانسيار من أخبر بموته معاوية‏.‏

فلما بلغ معاوية وعمرو بن العاص موت الأشتر قال عمرو بن العاص‏:‏ إن لله جنودًا من عسل‏.‏

وقال ابن الكلبي عن أبيه‏:‏ لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له نافع وأظهر له الود وقال له‏:‏ أنا مولى عمر بن الخطاب فأدناه الأشتر وقربه ووثق به وولاه أمره‏.‏

فلم يزل معه إلى عين شمس أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من المطرية وفيها ذلك العمود المذكور في أول أحوال مصر من هذا الكتاب‏.‏

فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا وسقاه نافع المذكور العسل فمات منه‏.‏

وقال ابن سعد‏:‏ إنه سم بالعريش وقال الصوري‏:‏ صوابه بالقلزم وقال أبو اليقظان‏:‏ كان وحكي عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ كان علي قد غضب على الأشتر وقلاه واستثقله فكلمني أن أكلمه فيه فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين وله مصر فإن ظفروا به استرحت منه فولاه‏.‏

وكانت عائشة - رضي الله عنها - قد دعت عليه فقالت‏:‏ اللهم ارمه بسهم من سهامك‏.‏

واختلفوا في وفاة الأشتر فقال ابن يونس‏:‏ مات مسمومًا سنة سبع وثلاثين‏.‏

وقال هشام‏:‏ سنة ثمان وثلاثين في رجب وكان الأشتر شجاعًا مقدامًا وقصته مع عبد الله بن الزبير مشهورة وقول ابن الزبير بسببه‏:‏ اقتلاني ومالكًا واقتلا مالكًا معي حتى صار هذا البيت مثلًا‏.‏

وشرح ذلك أن مالك بن الحارث أعني الأشتر النخعي كان من الشجعان الأبطال المشهورين وكان من أصحاب علي وكان معه في يوم وقعة الجمل فتماسك في الوقعة هو وعبد الله بن الزبير بن العوام وكان عبد الله أيضًا من الشجعان المشهورين وكان عبد الله بن الزبير من حزب أبيه وخالته عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم وكانوا يحاربون عليًا - رضي الله عنه فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على الآخر جعله تحته وركب صدره وفعلا ذلك مرارًا وابن الزبير يقول‏:‏ يريد قتل الأشتر بهذا القول والمساعدة عليه حتى افترقا من غير أن يقتل أحدهما الآخر وقال عبد الله بن الزبير المذكور‏:‏ لقيت الأشتر النخعي يوم الجمعة فما ضربته ضربة إلا ضربني ستًا أو سبعًا ثم أخذ رجلي وألقاني في الخندق وقال‏:‏ والله لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبدًا‏.‏

وقال ابن قيس‏:‏ دخلت مع عبد الله بن الزبير الحمام وإذا في رأسه ضربة لوصب فيها قارورة لاستقر فقال‏:‏ أتدري من ضربني هذه الضربة قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ابن عمك الأشتر النخعي‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ أعطت عائشة - رضي الله عنها لمن بشرها بسلامة ابن أختها عبد الله بن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم وقيل أن الأشتر دخل بعد ذلك على عائشة - رضي الله عنها فقالت له‏:‏ يا أشتر أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة فأنشدة الطويل أعائش لولا أنني كنت طاويًا ثلاثًا لألفيت ابن أختك هالكا غداة ينادي والرماح تنوشه بأخر صوتٍ‏:‏ اقتلاني ومالكا فنجاه مني أكله وسنانه وخلوة جوفٍ لم يكن متمالكا الصديق رضي الله عنه - على مصر هو محمد بن أبي بكر الصديق واسم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة واسم أبي قحافة عثمان أسلم أبو قحافة يوم الفتح فأتى به ابنه أبو بكر الصديق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقوده لكبر سنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم لا تركت الشيخ حتى نأتيه إجلالًا لأبي بكر - رضي الله عنه‏.‏

وأبو قحافة المذكور ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي وكنية محمد هذا أعني صاحب الترجمة أبو القاسم وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية ومولده سنة حجة الوداع بذي الحليفة في عقب ذي القعدة فأراد أبو بكر أن يرذ أسماء إلى المدينة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مرها أن تغتسل وتهل وكان محمد هذا في حجر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما تزوج أمه أسماء بعد وفاة أبي بكر الصديق فتولى تربيته ولما سار علي إلى وقعة الجمل كان محمد هذا معه على الرجالة ثم شهد معه وقعة صفين ثم ولاه مصر فتوجه إليها ودخلها في النصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين فتلقاه قيس بن سعد المعزول عن ولاية مصر وقال له‏:‏ يا أبا القاسم إنك قد جئت من عند أمير لا رأي له وليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله وأنا من أمركم هذا على بصيرة وإني أدلك على الذي - كنت أكيد به معاوية وعمرًا وأهل خربتا فكايدهم به فإنك إن أيدتهم بغيره تهلك ووصف له المكايدة التي كان يكايدهم بها فاستغشه محمد بن أبي بكر وخالفه في كل شيء أمره به‏.‏

ثم كتب إليه علي يشجعه ويقوي عزمه ففتك محمد في المصريين وهدم دور شيعة عثمان بن عفان ونهب دورهم وأموالهم وهتك ذراريهم فنصبوا له الحرب وحاربوه‏.‏

ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية فلحقوا بمعاوية في الشام وكان أهل الشام لما انصرفوا من وقعة صفين ينتظرون ما يأتي به الحكمان فلما اختلف الناس بالعراق على علي - رضي الله عنه - طمع معاوية في مصر وكان أهل خربتا عثمانية ومن كان من الشيعة كان أكثر منهم فكان معاوية يهاب مصر لأجل الشيعة‏.‏

وقصد معاوية أن يستعين بأخذ مصر على حرب علي - رضي الله عنه - قال‏:‏ فاستشار معاوية أصحابه عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد وأبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي وغيرهم وهؤلاء المذكورين كانوا خواضه فجمع المذكورين وقال‏:‏ هل تدرون ما أدعوكم إليه قالوا‏:‏ لا يعلم الغيب إلا الله فقال له عمرو بن العاص‏:‏ نعم أهمك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها فتدعونا لنشير عليك فيها فاعزم وانهض في افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك فقال له‏:‏ يا ابن العاص إنما أهمك الذي كان بيننا يعني أنه كان أعطاه مصر لما صالحه على قتال علي وقال معاوية للقوم‏:‏ ما ترون قالوا‏:‏ ما نرى إلا رأي عمرو قال‏:‏ فكيف أصنع فقال عمرو‏:‏ ابعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صارم تثق إليه فيأتي إلى مصر فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فنظاهره على من كان بها من أعدائنا‏.‏

قال معاوية‏:‏ أو غير ذلك قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ نكاتب من بها من شيعتنا نأمرهم على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم فتقوى قلوبهم ونعلم صديقنا من عدونا وإنك يا بن العاص امرؤ بورك لك في العجلة وأنا امرؤ بورك لي في التؤدة‏.‏

قال عمرو‏:‏ فاعمل برأيك فوا لله ما أرى أمرك إلا صائرًا للحرب قال‏:‏ فكتب إليهم معاوية كتابًا يثني عليهم ويقول‏:‏ هنيئًا لكم بطلب دم الخليفة المظلوم وجهادكم أهل البغي‏.‏

وقال في آخره‏:‏ فاثبتوا فإن الجيش واصل إليكم والسلام‏.‏

وبعث بالكتاب مع مولى له يقال له سبيع فقدم مصر وأميرها محمد بن أبي بكر الصديق فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حديج فكتبا جوابه‏:‏ أما بعد فعجل علينا بخيلك ورجلك فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين‏.‏

فإن أتانا المدد من قبلك يفتح الله علينا وذكرا كلامًا طويلًا‏.‏

وكان مسلمة ومعاوية بن حديج يقيمان بخربتا في عشرة آلاف وقد باينوا محمد بن أبي بكر ولم يحسن محمد تدبيرهم كما كان يفعله معهم قيس بن سعد بن عبادة أيام ولايته على مصر فلذلك انتقضت على محمد الأمور وزالت دولته‏.‏

ولما وقف معاوية على جوابهما وكان يومئذ بفلسطين جهز عمرو بن العاص في ستة آلاف وخرج معه معاوية يودعه وأوصاه بما يفعل وقال له‏:‏ عليك بتقوى الله والرفق فإنه يمن وبالمهل والتؤدة فإن العجلة من الشيطان وبأن تقبل ممن أقبل وتعفو عمن أدبر فإن قبل فهذه نعمة وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أقطع من الحجة وادع الناس إلى الصلح والجماعة‏.‏

فسار عمرو حتى وصل إلى مصر واجتمعت العثمانية إليه فكتب عمرو إلى محمد بن أبي بكر صاحب مصر‏:‏ أما بعد فنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني قلامة ظفر والناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك وندموا على اتباعك فهم مسلموك لوقد التقت حلقتا البطان فاخرج منها إني لك من الناصحين ومعه كتاب معاوية يقول‏:‏ يا محمد إن غب البغي والظلم عظيم الوبال وسفك الدماء الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والآخرة وإنا لا نعلم أحدًا كان على عثمان أشد منك فسعيت عليه مع الساعين وسفكت دمه مع السافكين ثم أنت تظن أني نائم عنك وناس سيئاتك وكلام طويل من هذا النمط حتى قال‏:‏ ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام‏.‏

فطوى محمد الكتابين وبعث بهما إلى علي بن أبي طالب وفي ضمنهما يستنجده ويطلب منه المدد والرجال فرد عليه الجواب من عند علي بن أبي طالب بالوصية والشدة ولم يمده بأحد‏.‏

ثم كتب محمد إلى معاوية وعمرو كتابًا خشن لهما فيه في القول‏.‏

ثم قام محمد في الناس خطيبًا فقال‏:‏ أما بعد فإن القوم الذين ينتهكون الحرمة وينعشون الضلالة ويشبون نار الفتنة ويتسلطون بالجبرية قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بجيوشهم فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إليهم فليجاهدم في الله انتدبوا مع كنانة بن بشر فانتدب مع كنانة نحوًا من ألفي رجل ثم خرج محمد ابن أبي بكر في ألفي رجل واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد وكنانة يسرح لعمرو الكتائب‏.‏

فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج السكوني‏.‏

وفي رواية‏:‏ لما رأى عمرو كنانة سرح إليه الكتائب من أهل الشام كتيبة بعد كتيبة وكنانة يهزمها فاستنجد عمرو بمعاوية بن حديج السكوني فسار في أصحابه وأهل الشام فأحاطوا بكنانة‏.‏

فلما رأى كنانة ذلك ترجل عن فرسه وترجل أصحابه وقرأ‏:‏ وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا إلى قوله‏:‏ وسنجزي الشاكرين فقاتل حتى قتل بعد أن قتل من أهل الشام مقتلة عظيمة فلما رأى أصحاب محمد ذلك تفرقوا عنه فنزل محمد عن فرسه ومشى حتى انتهى إلى خربة فأوى إليها وجاء عمرو بن العاص ودخل الفسطاط وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد ابن أبي بكر فسأل قومًا من العلوج وكانوا على الطريق فقال‏:‏ هل رأيتم رجلًا من صفته كذا وكذا فقال واحد منهم‏:‏ قد دخل تلك الخربة فدخلوها فإذا برجل جالس فقال معاوية بن حديج‏:‏ هو ورب الكعبة فدخلوها واستخرجوه وقد كاد يموت عطشًا فأقبلوا به على الفسطاط ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى عمرو بن العاص - وكان في جنده فقال‏:‏ أيقتل أخي صبرًا فأرسل عمرو إلى معاوية بن حديج يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر كرامة لأخيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال معاوية‏:‏ أيقتل كنانة بن بشر وأخلي أنا محمدًا‏!‏ هيهات هيهات‏!‏ فقال محمد‏:‏ اسقوني ماء فقال معاوية بن حديج‏:‏ لا سقاني الله إن سقيتك قطرة إنكم منعتم عثمان الماء ثم قتلتموه صائمًا فتلقاه الله بالرحيق المختوم والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر فليسقك الله من الجحيم فقال محمد لمعاوية‏:‏ يا بن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك وأما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا فقال له معاوية‏:‏ أتدري ما أصنع بك أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار قال محمد‏:‏ إن فعلتم ذلك لطالما فعلتموه بأولياء الله تعالى ثم طال الكلام بينهما حتى أخذ معاوية محمدًا ثم ألقاه في جيفة حمار ميت ثم حرقه بالنار وقيل‏:‏ إنه قطع رأسه وأرسله إلى معاوية بن أبي سفيان بدمشق وطيف به وهو أول رأس طيف به في الإسلام‏.‏

ولما بلغ عائشة - رضي الله عنها - قتل أخيها محمد بن أبي بكر هذا وجدت عليه وجدًا عظيمًا وأخذت أولاده وعياله وتولت تربيتهم‏.‏

وقال أبو مخنف بإسناده‏:‏ ولما بلغ علي بن أبي طالب مقتل محمد بن أبي بكر وما كان من الأمر بمصر وتملك عمرو لها واجتماع الناس عليه وعلى معاوية قام في الناس خطيبًا فحثهم على الجهاد والصبر والسير إلى أعدائهم من الشاميين والمصريين وواعدهم الجرعة بين الكوفة والحيرة‏.‏

فلما كان من الغد خرج يمشي إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش فلما كان العشي بعث إلى أشراف الناس فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيبًا فقال‏:‏ الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل وابتلاني بكم وبمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت أو ليس عجيبًا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه بغيرعطاء ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث إلى أي وجه شاء‏!‏ وأنا أدعوكم - وأنتم أولو النهى وبقية الناس - على المعونة وطائفة من العطاء فتتفرقون عني وتعصونني وتختلفون علي‏!‏ فقام مالك بن كعب الأرحبي فندب الناس إلى امتثال أمر علي والسمع والطاعة له‏.‏

فانتدب ألفان فأمر عليهم مالك بن كعب هذا وقال له علي‏:‏ سر فوا لله ما أظنك تدركهم حتى ينقضي أمرهم فسار بهم خمسًا ثم قدم على علي جماعة ممن كان مع محمد بن أبي بكر الصديق بمصر فأخبروه كيف وقع الأمر وكيف قتل محمد بن أبي بكر وكيف استقر أمر عمرو فيها فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق وذلك لأنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر واستقر أمر العراقين على خلاف علي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه والخروج عليه والتنقد على أحكامه وأقواله وأفعاله لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو نائبه على البصرة يشكو إليه مايلقاه من الناس من المخالفة والمعاندة فرد عليه ابن عباس يسليه في ذلك ويعزيه في محمد بن أبي بكر ويحثه على تلافي الناس والصبر على مسيئهم فإن ثواب الجنة خير من الدنيا ثم ركب ابن عباس إلى الكوفة إلى علي واستخلف على البصرة زيادًا وقد خرجنا عن المقصود‏.‏

السنة التي حكم فيها محمد بن أبي بكر الصديق وغيره على مصر وهي سنة سبع وثلاثين من الهجرة‏:‏ فيها كانت وقعة صفين بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وفيها قتل عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المدلجي العبسي أبو اليقظان كان من نجباء الصحابة وشهد بدرًا والمشاهد كلها وقتل في صفين وكان من أصحاب علي رضي الله عنه‏.‏

وفيها توفي خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة التيمي مولى أم سباع بنت أنمار‏.‏

كنيته أبو عبد الله‏.‏

كان من المهاجرين الأولين‏.‏

شهد بدرًا والمشاهد بعدها وروي عنه أحاديث‏.‏

وفيها أيضًا قتل بصفين من أصحاب علي رضي الله عنه أويس بن عامر المرادي القرني الزاهد سيد التابعين كنيته أبو عمرو‏.‏

أسلم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

وفيها قتل في وقعة صفين من أصحاب علي رضي الله عنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري‏.‏

وفيها توفي عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما‏.‏

وفيها قتل كريب بن صباح الحميري أحد الأبطال من أصحاب معاوية‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعًا وثلاثة أصابع‏.‏

ولاية عمرو بن العاص ثانيًا على مصر قد تقدم الكلام في أول ولايته على نسبه وصحبته للنبي ‏"‏ ص ‏"‏ ثم أخذه مصر ثانيًا في ترجمة محمد بن أبي بكر الصديق وكيفية قتاله وكيف ملك مصر منه‏.‏

وولاية عمرو بن العاص هذا في هذه المرة من قبل معاوية بن أبى سفيان وكان دخوله إلى مصر في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين وجمع إليه معاوية الصلاة والخراج في ولايته هذه‏.‏

وسبب انتماء عمرو إلى معاوية أن عمرًا كان لما عزله عثمان بن عفان عن مصر بعبد الله بن سعد بن أبي سرح المقدم ذكره توجه عمرو وأقام بمكة منكفًا عن الناس حتى كانت وقعة الجمل‏.‏

قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي قال جويرية بن أسماء حدثني عبد الوهاب ابن يحيى بن عبد الله بن الزبير حدثنا أشياخنا‏:‏ أن الفتنة وقعت وما رجل من قريش له نباهة أعمى فيها من عمرو بن العاص وما زال مقيمًا بمكة ليس في شيء مما فيه الناس حتى كانت وقعة الجمل فلما فرغت بعث إلى ولديه عبد الله ومحمد فقال‏:‏ إني قد رأيت رأيًا ولستما باللذين ترداني عن رأيي ولكن أشيرا علي إني رأيت العرب صاروا عنزين يضطربان وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة فإلى أي الفريقين أعمد قال له ابنه عبد الله‏:‏ إن كنت لا بد فاعلًا فإلى علي قال‏:‏ إني إن أتيت عليًا قال‏:‏ إنما أنت رجل من المسلمين وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره فأتى معاوية‏.‏

وعن عروة وغيره قال‏:‏ دعا عمرو ابنيه فأشار عليه عبد الله أن يلزم بيته لأنه أسلم له فقال محمد‏:‏ أنت شريف من أشراف العرب وناب من أنيابها لا أرى أن تتخلف فقال عمرو لابنه عبد الله‏:‏ أما أنت فأشرت علي بما هو خير لي في آخرتي وأما أنت يا محمد فأشرت علي بما هو أنبه لذكري‏.‏

ارتحل فارتحلوا إلى الشام غدوة وعشية حتى أتوا الشام‏.‏

فقال‏:‏ يا أهل الشام إنكم على خير وإلى خير تطلبون بدم عثمان خليفة قتل مظلومًا فمن عاش منكم فإلى خير ومن مات فإلى خير‏.‏

فما زال مع معاوية حتى وقع من أمره ما حكيناه في أول ترجمته وغيرها‏.‏

ودخل مصر ووليها بعد محمد بن أبي بكر الصديق ومهد أمورها‏.‏

ثم خرج منها وافدًا على معاوية بالشام واستخلف على مصر ولده عبد الله بن عمرو - وقيل خارجة بن حذافة - وحضر أمر الحكمين ثم رجع إلى مصر على ولايته ودام بها إلى أن كانت قصة الخوارج الذين خرجوا لقتل علي ومعاوية وعمرو هذا‏.‏

فخرج عبد الرحمن بن ملجم لقتل علي رضي الله عنه وقيس إلى معاوية ويزيد إلى عمرو بن العاص وسار الثلاثة كل واحد إلى جهة من هو متوجه لقتله وتواعد الجميع أن يثب كل واحد على صاحبه في سابع عشر شهر رمضان فأما عبد الرحمن فإنه وثب على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتله حسبما نذكره في ترجمته وأما قيس فوثب على معاوية وضربه فلم تؤثر فيه الضربة غير أنه جرح وأما يزيد فإنه توجه إلى عمرو هذا فعرضت لعمرو علة تلك الليلة منعته من الصلاة فصلى خارجة بالناس فوثب عليه يزيد يظنه عمرًا فقتله وأخذ يزيد وأدخل على عمرو فقال يزيد‏:‏ أما والله ما أردت غيرك فقال عمرو‏:‏ ولكن الله أراد خارجة فصار مثلًا‏:‏ أردت عمرًا وأراد الله خارجة‏.‏

وأقام عمرو بعد ذلك مدة سنين حتى مات بها فيما نذكره إن شاء الله تعالى في آخر هذه الترجمة‏.‏

قيل‏:‏ إنه لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى فقال له ابنه عبد الله‏:‏ أتبكي جزعًا من الموت فقال‏:‏ لا والله ولكن مما بعده وجعل ابنه يذكره بصحبته رسول الله ‏"‏ ص ‏"‏ وفتوحه الشام فقال عمرو‏:‏ تركت أفضل من ذلك‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله إني كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبقة إلا عرفت نفسي فيها‏:‏ كنت أول شيء كافرًا وكنت أشد الناس على رسول ‏"‏ ص ‏"‏ فلو مت حينئذ لوجبت لي النار فلما بايعت رسول الله ‏"‏ ص ‏"‏ كنت أشد الناس منه حياءً ما ملأت عيني منه فلو مت حينئذ لقال الناس‏:‏ هنيئًا لعمرو أسلم على خير ومات على خير أحواله ثم تلبست بعد ذلك بأشياء فلا أدري أعلي أم لي فإذا أنا مت فلا يبكى علي ولا تتبعوني نارًا وشدوا علي إزاري فإني مخاصم فإذا أوليتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها أستأنس بكم حتى أعلم ما أراجع به رسل ربي‏.‏

قال الذهبي‏:‏ أخرجه أبو عوانة في مسنده‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه بعدها حول وجهه إلى الجدار وهو يقول‏:‏ اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فما انتهينا ولا يسعنا إلا عفوك‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم لا قوي فأنتصر ولا بريء فأعتذر ولا مستكبر بل مستغفر لا إله إلا أنت فلم يزل يرددها حتى مات رضي الله عنه‏.‏

وقال الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن أباه قال‏:‏ اللهم أمرت بأمور ونهيت عن أمور فتركنا كثيرًا مما أمرت ووقعنا في كثير مما نهيت‏.‏

اللهم لا إله إلا أنت‏.‏

ثم أخذ بإبهامه فلم يزل يهلل حتى توفي‏.‏

قال الذهبي وأيده الطحاوي‏:‏ حدثنا المزني سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول‏:‏ دخل ابن عباس على عمرو بن العاص وهو مريض فقال‏:‏ كيف أصبحت قال‏:‏ أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلًا وأفسدت من ديني كثيرًا‏.‏

فلو كان ما أصلحت هو ما أفسدت لفزت‏.‏

ولو كان ينفعني أن أطلب لطلبت ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت‏.‏

فعظني بموعظة أنتفع بها يا بن أخي فقال‏:‏ هيهات يا أبا عبد الله‏!‏ فقال‏:‏ اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى‏.‏

وكانت وفاة عمرو المذكور في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين فصلى عليه ابنه ودفنه ثم صلى بالناس صلاة العيد‏.‏

قاله أبو فراس مولى عبد الله بن عمرو‏.‏

وقال الليث بن سعد والهيثم بن عدي والواقدي وابن بكير‏:‏ وسنه نحو مائة سنة‏.‏

وقال أحمد العجلي وغيره‏:‏ تسع وتسعون سنة‏.‏

وقال ابن نمير‏:‏ توفي سنة اثنتين وأربعين‏.‏

قلت‏:‏ والأول هو المتواتر‏.‏

وكان عمرو رضي الله عنه من أدهى العرب وأحسنهم رأيًا وتدبيرًا‏.‏

قيل‏:‏ إنه اجتمع مع معاوية بن أبي سفيان مرة فقال له معاوية‏:‏ من الناس فقال‏:‏ أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد قال معاوية‏:‏ كيف ذلك قال عمرو‏:‏ أما أنت فللتأني وأما أنا فللبديهة وأما المغيرة فللمعضلات وأما زياد فللصغير والكبير قال معاوية‏:‏ أما ذانك فقد غابا فهات بديهتك يا عمرو قال‏:‏ وتريد ذلك قال نعم قال‏:‏ فأخرج من عندك فأخرجهم معاوية فقال عمرو‏:‏ يا أمير المؤمنين أسارك فأدنى معاوية رأسه منه فقال عمرو‏:‏ هذا من ذاك من معنا في البيت حتى أسارك‏!‏ ولما مات عمرو ولي مصر عتبة بن أبي سفيان من قبل أخيه معاوية‏.‏